رواية دستوبيا 13.. حين ينتفض الكاتب من رحم المدينة الفاسدة
محمد بوكوم، أو ماركوس تيتو، هكذا كان يطلق على نفسه، أو ربما هكذا كان يُعرَفُ بين أصحابه ورُفقائه. ربما هي لمسة وفاء لروح المارشال جوزيف بروز تيتو، رئيس المقاومة اليوغسلافية ضد الإحتلال النازي والذي يعتبر بطلا قوميا وأمميا، وربما أيضا عانق الكاتب هنا سردية "القائد الأدنى ماركوس" روح "جيش زاباتيستا للتحرر الوطني" المكسيكي.
هو إعلامي وصحفي ومخرج وكاتب أخذ على عاتقه وزر الهامش منذ زمن بعيد، منحازا لطبقة مُغيّبة متروكة منذ أمد، ليخلق بذلك متنفسا أدبيا وفنيا منقطع النظير، وليساهم في سطوع فجر رواية جديد، لا مع هذا ولا مع ذاك، مع الهامش الذي أمل له، مبتكرا بذلك أسلوبا جديدا، يصل إلى حد عتبة بيتك، بل مهّد طريقا روائية سريعة من الكاتب إلى القارئ، مطلقا رصاصة الرحمة على أدب النمط، الذي لطالما جثم على الساحة الأدبية والثقافية لعقود طوال.
على أرض مدينة منزل جميل الخالدة، نما محمد بوكوم وتطور وأبدع وجوده الإنساني عبر علاقة عضوية - بين دستوبيا واقعه، وما ينشد من يوتوبيا - لا انفصام فيها ولا انقطاع.
بالثبات الملحمي في المكان والزمان، واعتمادا على الفصل 13 من وثيقة إعلان دستوبيا الكوني، صاغ الكاتب روايته من رحم المعاناة وارتقى بأفكاره ناشدا إنارة عتمة المدينة الفاسدة، محاولا بذلك تسلق جدران الدستوبيا الكلسية القاتمة.
رغم ما أثاره الواقع الرديء من مطامح ومطامع وغزوات النمط الأدبي، التي كانت ستؤدي إلى حرمان الهامش من إمكانية تحقيق استقلاله الروائي، إلا أن ديمومة التصاق الفكرة في روح القارئ هي التي منحت دستوبيا 13 هويتها، ونفخت في المتلقي (وأنا أولهم) روح الكلمات، مطعّما بسلالات الحضارة، وتعدد الرؤى، مستلهما نصوص تراثه الروحي والزمني في علاقة روحية وعضوية تبلورت عبر الزمان والمكان.
برواية دستوبيا 13، واصل الكاتب كفاحه ونضاله ضد النمطية السائدة، وقضى على أهم أسسها المتمثلة، في الإحتكار الفكري والأدبي، إضافة إلى المضاربة الأدبية، غارسا بذلك خنجر الرحمة في صدر الأفراد والمنظمات التي تبيع الكتاب وتتغاضى عن الفكرة وغطت بظلها الثقيل والمزعج نور الكلمة والمعنى.
بدخول الفصل الأول من الرواية، أُعلِن عن قيام الكلمة من مقبرة، حين خالف الكاتب بذلك كل القوانين والنواميس الأدبية، ثائرا على المقبرة نفسها التي لاقت نفسها في مستهل الكتاب وصدره، فلقد تعودنا على توديع المقابر في الآخر دائما، ونحن نهمُّ بإغلاق الباب الفكري، مقرئين السلام لمن كتب ونظّم أفكاره، لذلك أسست الرواية لسطوع فجر قلم جديد، قوبل بالحديد والنار من مستهله.
تصوّر الرواية ثنائية جحيمية لفضاعة البشر والأنظمة، وعلى مدار عقد من الزمان وأكثر، صوّر الكاتب بسرديته السينمائية وحشية الأغلال النفسية التي جثمت بكل قوتها على الزمان وحاولت اجتثاث ما تبقى من الهوية البشرية، متأرجحة بكل خبث ومكر، بين متلازمات الدستوبيا المتحورة وزرد السلاسل العنيف الصامت.
فور صدورها، استقلت الرواية زورق النجاة من الواقع، مبتعدة عن شاطئ النمط ومبحرة صوب سواحل الكوكب الأزرق لتستقر عند شاطئ موقع أمازون العالمي، شاقة بذلك طريقا قاسية مليئة بالتحديات والأمل، لتؤسس بعدها جمهورية دستوبيا العالمية، متربعة على عرش المبيعات العالمية كأول رواية تونسية وعربية نجت من التكرار وتفردت، ثم ثارت لتفتك المركز الأول بكل حزم وقتامة وعتمة تركتها في بلد لبست جلود النمور، وارتدت الحديد والمغفر، معاهدة الله أن لا ينبعث نور أمل أدبي جديد من أوساط الهامش المتروك على الأرصفة والموانئ.
وأنت تكتشف هضابها وسهولها، ستظن لوهلة أنك في تونس، ولكن طبعا أنت الوحيد المسؤول هنا عن تركيب أفكارك، فأي تشابه ولو بسيط بين ما تبلور في خلاياك العصبية والحقيقة، إنما هو محض مصادفة دستوبية فقط، فالحقيقة نسبية، كما هي حال الفكرة والكلمة.